حبيبة

من طرف **unknown** الأربعاء ديسمبر 23, 2009 4:22 pm

تحسس نبضه و عاين عينيه "سيدي يمكنك الخروج من المستشفى منذ اليوم"

رصاصة عبرت أذني عادل فخرقت شرنقة الاحتماء التي لف نفسه فيها، أراد أن يقوم بعملية غسل دماغ بعد الغيبوبة فهو يخشى المواجهة

أقبر نفسه بين جدران المشفى، خشية جدران شهدت حبهما، يخالها تسأله عنها ،عن رحيلها ،و تتضرع له بإخبارها مكانها، يخاف أن تعبث به أمواج الشوق و هو من كان سببا في فراقها.

ولج منزله الذي عبق بعطرها ، أنفاسها تحوم حوله و تطوقه لتوصله إلى غرفتهما فتح بابها فأحدثت صريرا مزعجا فارتسمت صورتها على السرير و هي حامل أشهرها الأولى إجابة سريعة من ثغره حبيبتي و طفلي نائمين و هذا الباب لازال على عادته، دب دبيبا في أرجاء الغرفة و أنفاسها تحاكيه

ناهض عادل عبراته التي تأبى الاستقرار في أروقة العيون إلى أن أسدل الليل سكونه و أبت السماء إلا أن تنزل عبراتها الصافية من بين غيوم استكانت على المدينة ذلك اليوم الخريفي البارد

-أعشق الخريف و مطره

أمسكته بيدها الناعمة و قادته نحو النافذة شاهد في لون عينيها الخريف، فيروز من الخضرة التي لفّت الأصفر العسلي، و هما تبرقان ببراءة طفلة تلاحق فراشة و هي في أحلى معاني غبطتها، ابتسم و هو يحملق في وجهها الملائكي، كانت تائهة في عالم آخر حتى أنها لم تلحظ ارتشاق عينيه بها.

أدارت وجهها بخفة و التقت عيونهما، وهي لا تزال غائصة في عالم الخريف و أردفت

-هل تشم رائحة نسائم الخريف ، آه كم أهواها رائحة التراب الندي عندما تتصاعد معلنة احتواءها للمطر . حبيبي قلت أنك ستحقق طلباتي جميعها، و أخاف على نفسي منك أن أطلب شيئا تحققه لي

-حبيبتي كيف ذلك

-أخاف أن أتوحم إن حملت على تراب الخريف لو تعلم كم تثيرني رائحته لدرجة أنني أشتاق أكله ،هذا في الأيام العادية، فما بالك و أنا بالوحم

نظر إليها و همّت الضحكة تغادر فاهه

-أتكلم بجدية و الله إنّي كذلك

ابتسم عادل ابتسامة عريضة

-لا تقلقي سأدعو الله أن لا تكون أشهر حملك الأولى خريفا، بل أتمنى أن تينع ثمرة حبنا خريفا لتشبهك

اخترقت كلماته و عيونه كل روحها ، فانجرفت تتمعن بعيني حبيبها ،حينها قرب وجهه من خدها المتورد ليطبع لثمة عليه.

فإذا بها برودة تجمد شفتيه المطبوعتين على النافذة التي أيقظته من سبات الذكريات، أما الأبخرة المتصاعدة من نَفَسه فقد شكلت غيمة صغيرة على زجاج النافذة فرسم اسمها عليها

-اسمي حبيبة

-تشرفت بمعرفتك

كان يوما خريفيا متقلبا حين تعرف عليها، و كان في سنته الأخيرة من الدراسات العليا و كانت هي في سنواتها الأولى في الجامعة جاءت تطلب مساعدته و منذ ذلك الحين و روحه تطلب المساعدة، فقد تعلقت هذه الروح بها و لم ترجع مستقرها.

كان يرجع الى بيته و روحه هائمة ، يوصد باب غرفته، و ينقش إسمها في النافذة التي تجمع بخارأنفاسه بها و يتفنن في إعطاء كل حرف حقه من الجمال فكل حرف و نقطة من اسمها ترسم وجهها الجميل على ضفاف غرفته و يلتقي هناك بروحها الطيبة التي تترآى له مع كل نسخ لإسمها

الحاء، تقوس جميل لعينيها، يخترقه عبر الزجاج ضوء إنارة صفراء كلون مآقيها

النقاط على الحروف كخاناتها المتناثرة على وجهها الأبيض

و التاء دائرية كأيقونة عقيق حمراء اختزنتها شفتيها اللتان تخفيان ابتسامة من اللؤلؤ الأبيض، متراص كتراص نبرات الحروف

كان هذا تفسيره لحبيبته أو فلسفته التي يعبر بها عن حبه التي تجذر فؤاده و دندن مع كل دقة من قلبه

كان ينام على اسمها و يصحو ليراه، لكنه يكتشف أن تعرُّق النافذة أنزل نديات باكية على اسمها و قد اضمحل الاسم بين الندى،و تشوهت صورة حبيبة ، فتعلوه انفعالات متباينة لما آل إليه اسمها

هل قدرها كان كقدر اسمها، هل كلماتها هي مفاتيح قدرها، توقف عادل عند هذه النقطة و أشرقت عيناه بالدموع و هو يتذكر تشوه وجهها في حادث السيارة قبل أن يغط في غيبوبة دامت شهرا

نعم لقد فقدها و جنينها في الحادث و نجا منه، ليعود لحياة جدباء بدونها وحيدا يقطف الذكريات

*قالت أنها ستتوحم على تراب الخريف و كان لها ذلك فهي تحته الآن تتذوق طعمه و أنا من جلبته لها*

وأجهش باكيا،تأصله الحزن طول الليل و كاد يزهق روحه البائسة . و بحلول الصباح المشمس اتخد قرارا بمفارقة روحه فروحه لم تعد موجودة

فتح دفتي النافذة و همّ يلقي بنفسه منها فاستوقفته زهرة أقحوان يداعب شعاع الشمس بتلاتها و ارتد صوت حبيبة لسمعه من أيام غاب هواها

-زهرة الأقحوان تنبت خريفا مقاومة رغم ظروف الخريف و تبقى صامدة للشتاء، معظم الأزهار تزهر ربيعا لكنها خريفية بطبيعتها ،و تبعث الأمل في النفوس في رمادية أيام الخريف فتعلن أن الحياة لن تتوقف ،عدى عن فوائدها الجمة

-انها تشبهك حبيبي فرغم وحدتك في الطفولة إلا أنك كالحياة المتجددة

رجع عادل خطوة الى الوراء و انبلج فجر جديد في حياته ذلك اليوم فربما قدره سيكون قدر زهرة الأقحوان الخريفية، سيمشي على خطى حبيبة أنفاس الخريف.