يوم كباقي الأيام..أفاق من نومه اثر ذلك الوميض الصغير الذي انبعث من ثقب في الجدار,فانعكس على عينيه مباشرة ليأذن لهما بالانفتاح:هذه كانت طريقته الاعتيادية للصحو من نومه,فهولا يحتاج إلى منبه يشعره بوقت الاستيقاظ ما دامت الشمس تتكفل بذلك بسخاء مفرط...
توضأ وصلى ركعتي الصبح,وكعادته فهو يأخذ في الوضوء والصلاة وقتا يصل في كثير من المرات الى 20 دقيقة,فأعضاءه المتهرئة وجسده المقوس لم يعودا يسمحان له بعمل الأشياء بسرعة,أثناء صلاته لم تختلف دعواته هذه المرة عن الأيام السالفة,فهو دائما يدعو ربه بان يفتح له أبواب الرزق وان يجعل يومه أحسن من الذي فات,فعلى الاقل هذه هي اقل الأماني التي صار يمني بها نفسه بعدما تيقن أن زمن الأحلام قد ولى وأدبر...
شرب من براد الشاي بضعة جرعات وقضم بعضا من الخبز الحافي الذي يمتلكه من البارحة,فلم يعد يأبه بالشاي الذي لا يحتوي سكرا ولا بالخبز الفارغ من أي محتوى,فقد صار أكثر ما يهمه هو أن يبقى على قيد الحياة أطول فترة ممكنة وان يحارب الزمن من اجل الظفر بلقمة عيش تجعله مستمرا في موكب الأحياء..
خرج من غرفته القديمة..لم ينس أن يقفلها جيدا بذلك المفتاح القديم, فعلى قلة أغراضه يخاف أن يأتي لص لا يقيم وجها لممتلكات الفقراء يجد بيته العتيق صيدا سهلا, بعد ذلك وبخطوات متثاقلة سلك طرقه الاعتيادي نحو السوق حيث يكسب قوت عيشه...
في الطريق,وعلى غير العادة استوقفته شاحنة ضخمة بها بعض البقع الخضراء ونصفها العاري مغطى بقطة قماش داكنة كأنها خيمة,وتتعالى منها أصوات أشخاص بالقهقهة والكلام الفارغ,لم يحتر طويلا لأمر هذه الشاحنة, فهو يتعلق بشاحنة حربية تقل عددا من الجنود نحو الصحراء ,انه يعرفها جيدا ما دام قد عاش في وقت من الأوقات داخلها,وما دامت مثل هذه الشاحنة قد أقلته هو وزملائه في كثير من الأحيان نحو ساحات الوغى,لذلك تنهد من أعماق قلبه وهو يحاول ان يستعيد لحظات من معقل الذاكرة, وبعض لحظات بدأت الذكريات تهاجمه من كل حدب وصوب, فتطلع نحو السماء,وزفر من أعماق قلبه وأذن لعجلة الزمن بالعودة الى الوراء..
تذكر في ذلك اليوم,عندما أتت قوات من المستعمر ومعها بعض القياد الى قريته الصغيرة,يخبرونهم بأنهم سيرسلونهم إلى مكان في الكرة الأرضية سموه ب"لا لمان",واخبروهم أن الناس القادرون على حمل السلاح هم من المسموح لهم بالذهاب مقابل امتيازات مهمة ومقابل العيش في رغد وهناء بالإضافة إلى ان البلد سيعش في بعد ذلك في استقلال تام إن هم ساعدوا المستعمر على التخلص من أصدقاء هتلر,لذلك كانت فرصة العمر بالنسبة له ان يخرج من بلده ويتجه إلى عواصم النور ليعود بأكداس من الذهب حتى ولو كان الأمر فوق دبابة...
أرسلوهم إلى ساحات المعركة,وكم كان يفرح حين يسمع العساكر الأخرى من الانجليز والأمريكان والفرنسيين يقولون أن الجزائريين اسود غير مروضة في ساحات الوغى,لذلك كان الجزائريون هم أول من يحارب في الصفوف,وأول من يدفع ضريبة القتال في الجيوش,شهور مرت عليهم وهو ينامون تحت وابل من النار ويستيقظون تحت نيران المدافع وقصفات الطائرات,لم يتذكر كم من أصدقاءه تم قتلهم,ففي بعض الأحيان,لا يجد من زملاءه سوى بعض الأشلاء يحار عليه ان يتعرف على صاحبها,وفي أحسن الظروف,يسدي لبعض الأصدقاء خدمة إنهاء حياته بعدما تتمكن منه شظية قوية تمنعه من الرغبة في العيش أكثر...
لا يتذكر كم من واحد أصابهم هو بنيران بندقيته,لكنه يعرف جديا انه كان يقتل,ولا يعرف لماذا يقتل,ولا لمن يقتل,كل ما في الأمر انه يحارب الألمان ما دام المستعمر طلب منه ذلك وما دام تحررنا واستقلال بلادنا مرهون بهذه المعركة التي لسنا بطرف فيها,لذلك كان يقتل ويقتل,فان لم يكن من اجل عيون فرنسا,فمن اجل أن يبقى على قيد الحياة,ففي وقت من الأوقات,وبعد ان وقف على واقع الحرب البغيض ,نسي أحلامه بأكوام الذهب وبأكياس المال,وصار كل همه ان يحارب لكل يبقى حيا ولكي لا تتم تصفيته...
في نهاية المعركة,وبعد أن ضمن الحلفاء نصرهم,واندحرت النازية وانتهى عصرها,أعادوه هو ومن بقي من أصدقاءه إلى بلادهم الأصلية,وبدل الذهب والمال والغنائم التي طالما من بها نفسه,عاد إلى بلاده برجل مقطوعة وبوجه مشوه وبذكورة منقوصة كانوا أهم ذكرياته من المعركة,وكم كان يغبط نفسه على هذه العودة,فعلى الأقل هو لا يزال حيا ما دام الموت صار في ذلك الوقت رفيقا اعتياديا لكل من ذهب إلى عواصم النور..
استقلت البلاد ورحل المستعمر,واستمرت الوعود بتحسين وضعية كل من حارب إلى جانب الحلفاء,طيلة عشرون سنة,وهو يذهب إلى العاصمة,ليطالب المسئولين بتحسين وضعيته وبمساعدته ما دام قد فقد بعض الأعضاء من جسده فتحول إلى مجرد إطار لإنسان غير قادر حتى إلى التطلع إلى أنثى,وما دامت عائلته رحلت عن الدنيا اثر نيران عشوائية من المستعمر على قريتهم,ففي الوقت الذي كان يحارب فيه من اجل المستعمر,كان هذا الأخير يجازيه على أفعاله وعلى بطولته بتصفية كل ما تبقى له من عائلته...
طيلة عقدين من الزمان,وهو يطالب المسئولين ببعض التقدير يعيد له كرامته كانسان,فلم يحفل منهم إلا ببعض الوعود ووسام شرف علقوه على صدره في أمسية من الأمسيات,حيث البسوه بذلة جديدة وصوروه بعدسات الكاميرا,قبل ان يرموه إلى سلة المهملات رغم أنهم أكدوا له أكثر من مرة انه سيتوصل براتب شهري يضمن له مواصلة حياته...
الحقيقة أنهم وفوا بوعد الراتب الشهري,فبعد سنوات من الانتظار,أرسلوا له شهريا بضعة دنانير لا تكفيه لعيش أيام معدودات,وكم كان يمني نفسه برفع سقف هذا المبلغ البخس على اعتبار أن مصاريف الحياة آخذة في الاطراد,لكنهم بقوا على وعودهم وبقي المبلغ هو نفسه هذا إن لم يقتطعوا منه في بعض الأحيان تحت ذريعة خطأ مطبعي...
انته دوران عجلة الذاكرة وأعاده الزمن إلى مكانه الأصلي,وتوقفت مروحة الحياة عن العودة إلى الوراء ,فتحسس رجله المقطوعة وتنهد من أعماق قلبه,قبل أن يكمل مسيرته نحو السوق,حيث جلس في مكانه المعتاد وبعد ان قام بلم رجله المقطوعة,افترش قفته على الأرض,قبل أن يبدأ بغناء معزوفته المعتادة:
"صدقة يا عباد الله..صدقة الله يرحم والديكم . لله يا محسنييين.."
الإثنين نوفمبر 03, 2014 9:46 am من طرف king
» أروع أغاني المرحوم حسني
الخميس يناير 16, 2014 7:58 am من طرف ZAKI HERO
» كتاب المرشد في إختراق السرفرات و المواقع
الثلاثاء فبراير 19, 2013 3:25 pm من طرف king
» اروع ما غنا الشاب أنور
الجمعة فبراير 15, 2013 9:18 am من طرف king
» طفى الجهاز وانت خارج البيت
الجمعة فبراير 15, 2013 7:37 am من طرف king
» طريقة تسريع الفايرفوكس 200%
الجمعة فبراير 15, 2013 7:32 am من طرف king
» مصطلحات مهمة للمبتدئين في اختراق المواقع
الثلاثاء فبراير 12, 2013 1:45 pm من طرف king
» أمن الشبكات
الإثنين فبراير 11, 2013 1:51 pm من طرف king
» الأمن عبر الإنترنت
الإثنين فبراير 11, 2013 1:33 pm من طرف king